لأن الإنسان محور هذا الكون، وسيد المخلوقات على الأرض، والذي خُلق كل شيء لأجله، فلا بد أن يكون هو الهدف من وراء كل جهد إنساني تنموي لضمان أمن وأمان الإنسان، وحرية وحقوق الإنسان وكرامته وسعادته.
ولأن الإنسان عقل وروح وجسد، أو عقل ووجدان وإحساس، فليس هناك أقرب إلى الإنسان من الثقافة التي بالعناية بها، عناية بالعقل والروح وبناية لسلامة الجسد، وتنمية للعقل وصقل للوجدان وترقية للإحساس وتربية للضمير وبقدر النجاح في بناء الإنسان ورعاية ملكاته، بقدر ما يتحدد النجاح في بناء وتنمية المجتمع.
ولأن الإنسان الذي هو الغاية من كل تنمية وهو الوسيلة في الوقت نفسه لأي تنمية، أضحت التنمية الثقافية هي أساس التنمية الإنسانية للمجتمع. وبقدر ما نبني ثقافة صحيحة غير مريضة ولا مغتربة ولا مستغربة بقدر ما نبني إنسانا صحيحا ومجتمعا صحيحا.
لكن الثقافة نفسها بدون عناية كافية بالإنسان يمكن أن تمرض إذا نتجت عن حالة مرضية مجتمعية أو ذاتية أو نتجت عن بعض المثقفين المرضى مبنى ومعنى شكلا أو مضمونا، ويمكن للعقل المشوش أن ينتج أنماطا من الفكر ولكن بفقر في القيم وبلادة للضمير، ويمكن للوجدان السقيم أن يقدم نماذج من الأدب ولكن بقليل من الأدب، ويمكن للإحساس الفاسد أن يعرض أشكالا من الفن ولكن بغير مضمون راقٍ.
في الحالتين تبقى الثقافة سلاحا ذا حدين، صحيحة تبني وتنمي، ومريضة تهدم وتعمي، إما نور يهدي إلى قيم الحق والعدل والخير والجمال ويبدد الظلم والظلام، وإما نار تحرق وتدمر كل اخضرار أو بناء أو حياة وتنشر الظلمة والغيوم. وعندما نقترب من ثقافة التنمية وتنمية الثقافة كمفهوم وكعملية، نجد أنفسنا أمام ضرورتين، تنمية الثقافة أولا لصنع ثقافة التنمية ثانيا.. وأمام عمليتين هما تنمية الثقافة، وعملية ثقافة التنمية.
وحينما تعني «الثقافة» لغويا صقل السيف العربي بما يزيل عنه الصدأ ويزيد من حدة نصله، فإنها تعني فكريا جعله لامعا في الشكل وفاعلا في المضمون، بدرجة أكبر من غيره من السيوف غير المصقولة. وإذا كانت الثقافة، هي تثقيف لسيف صدى وجعله لامعا وفاعلا، وللإنسان هي تنمية لوعى عالٍ وتربية لسلوكٍ راقٍ بجعل الإنسان مصقولا فكراَ وفعلاَ، فإن «التنمية» تسير في نفس الاتجاه.
ومن ثم يكون المثقف هو الإنسان المشحون بالمعارف القادر على التفكير والعمل بالإبداع والعطاء نظريا وعمليا، بما يتجاوز دائرة مصالحه الذاتية الضيقة إلى دائرة المصالح الوطنية والإنسانية في آن معا. والمثقف الحقيقي هو ذلك الإنسان المهموم بالهم العام، ذو القيم الإنسانية النبيلة النابعة من القيم السماوية العظمى والمتمسك بالمثل العليا المعبرة عن حكمة مجتمعه، والواعي بقضايا العالم، والحالم بإصلاح العالم، والقادر على العطاء فكريا وعلميا وعمليا للإسهام في هذا الإصلاح.
في النهاية لابد من ثقافة لأنها ضرورة، وغير القادرين على تنمية ثقافتهم لن يكونوا قادرين على تنمية مجتمعاتهم، لسبب بسيط هو أن فاقد الشيء لا يعطيه.